السبت، 10 مارس 2012

دبابة الليبراليين


الكاتب خالد الغنامي

لامني بعض الأصدقاء بقوله إنني قسوت على الليبراليين عندما وصفتهم بأنهم بوابة لكل عدو، وأنهم لا يستحقون تلك القسوة، وأن الوضع ليس بالخطورة التي صورتها فيما يتعلق بما يحدث في البحرين والعراق.

وتعليقي على ذلك هو الآتي.
كون شريحة كبيرة من الليبراليين السعوديين لا همّ لهم ولا مشكلة سوى أنه يريد أن يتعشى في مطعم مع عشيقته دون أن تزعجهما «الهيئة» ولا يرى أذى يضايقه سوى الإسلاميين والصحوة، لا يعني أن المشروع الليبرالي يقف على عتبة هذه الرغبات التافهة.

نعم، هؤلاء الشباب ورغباتهم التافهة تلك، يمكن استخدامهم كمطايا للغرض الكبير، لكنه هو وأحلامه ليسا القضية.

دعونا نسمي هذا النوع من الليبراليين بـ»أبو عَشاء» لأننا سنعود له.
عندما تنظر في المآلات، تجد أن الليبرالية قد تعرجت في خطين واستخدمت لخدمة أجندتين، فهناك الليبرالية التي تخدم المشروع الصهيو – أمريكي، وهناك الليبرالية التي تخدم المطامع الإيرانية في المنطقة العربية وكلاهما حاضر بقوة. دعونا نحلل هذه الجزئية بتركيز ونترك الأسئلة مفتوحة للجميع، هل هما خطان فعلاً؟

عندما تنظر فيما حل بالعراق، ينتابك شك عميق في دعوى التناقض بين التوجه الأمريكي والتوجه الإيراني.
فلطالما سمعنا أن هناك خلافاً أمريكياً حاداً بين أمريكا وإيران. ولطالما سمعنا أن أمريكا ستوجه ضربة عسكرية قاتلة لإيران.

لكن هذه الضربة التي يقولون في كل عام إنها ستأتي لا محالة، لم تأت ولن تأتي. ويبدو لي أن الحقيقة على العكس من ذلك تماماً. لقد غزت أمريكا عراق العرب واحتلته وأنفقت أموالاً غزيرة وفقدت أرواح كثيرين من جنودها، وتكلم الناس في نواياها. ثم بعد كل هذا سلمت العراق لإيران لكي تبتلعه بهدوء وتمتع كبير ونحن ننظر، ابتلعوه ولا حيلة لنا سوى الفرجة.

هل هذه هي الضربة القاتلة التي كانوا يتحدثون عنها؟!
إنها مكافأة ضخمة لا توهب إلا للأصدقاء والأحباب، وليست عقوبة على الإطلاق.
وهاهي «العراق الإيرانية» ترد التحية بأجمل منها لأمريكا والدول الغربية، وذلك من خلال تصدير العراق لثلاثة ملايين برميل من النفط العراقي. ابتدأ هذا في الأسبوع الماضي في سابقة لم تحدث منذ عام 1979. وهذا بطبيعة الحال سينعكس على أسعار البترول سلباً بحسب مبدأ العرض والطلب.
هذا ما يريدونه هم من الليبراليين، لكن ماذا يريد الليبراليون النخبويون؟ ما هو حلمهم؟
قال لي أحدهم مرة إنه يحلم أن تتحول بلاد العرب لشيء يشبه أمريكا، يقصد أن النظام هناك يكفل المساواة وتوفير الخدمات لكل المواطنين بعكس بقاع كثيرة في عالمنا العربي.لكن، يخطئ الليبراليون العرب عندما يتصورون أن أمريكا تريد أن تصبح بلاد العرب مثل أمريكا. فالقضية بالنسبة لهم تدور فقط حول البترول لا الإنسان العربي وليس هناك همّ تعيشه أمريكا والغربيون سوى سعر البرميل!
ماذا عن منظري الليبرالية، ماذا يريدون؟

دعونا نحن وصاحبنا «أبو عشاء» ننظر فيما يقوله شاكر النابلسي أحد كبار «الليبراليون الجدد» وهو كاتب أردني حاضر في المشهد الثقافي السعودي منذ الثمانينيات ويقيم الآن في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد أولانا في السنوات الأخيرة عناية كبيرة بحيث خص السعودية بكتاب له صدر منذ سنتين اسمه «الليبرالية السعودية بين الوهم والحقيقة». يقول هذا الكاتب في كتاب آخر له واصفاً للعرب طريق الخروج وأسباب النجاة للخروج من الحكم الديكتاتوري:
«لا حرج من أن يأتي الإصلاح من الخارج، ولكن بالطرق الديبلوماسية، والمهم أن يأتي سواء أتى على ظهر جمل عربي، أو على ظهر دبابة بريطانية أو بارجة أمريكية أو غواصة فرنسية».

بطبيعة الحال فإن شاكر النابلسي لم يكتب هذا الكلام في كتبه ومقالاته التي تنشر في الصحف السعودية، وإنما قاله في كتاب «الليبراليون الجدد» الذي نشره في عام 2005 كتبرير لممارسة الأمريكان في المنطقة. فهل هناك خيانة أكبر من هذا التصريح؟! وإذا كان الليبراليون قد تخلوا عن الإسلام، ألا يجب أن تبقى لديهم ذرة من عروبة أو رجولة؟!

إذن، شيخ الليبراليين النابلسي يريد الدبابة الغربية أن تغزونا ولا يهمه بتاتاً عدد الأطفال الذين ستسحقهم تلك الدبابة ولا الأرواح التي ستزهقها. ما يهمه فقط هو رضا أسياده في واشنطن وأن يدون اسمه في تاريخنا العربي كفيلسوف التنوير وشبيه فولتيير وعدو الظلامية والتخلف.

لسوء حظه فإن هذا لن يحدث، ففلاسفة التنوير، بغض النظر عن اختلافهم في موقفهم من الدين، كانوا يهدفون إلى المصلحة الوطنية للأرض التي ولدوا فوقها ولم يكونوا قط أتباعاً للأعداء.


الأربعاء، 7 مارس 2012

الكاتب خالد الغنامي يعلن اليوم وداعه (الليبرالية).. ويصفها بأنها (بوابة لكل عدو)

كيف لي أن أنتقد الفكر الليبرالي اليوم وقد كنت أحد المعجبين به؟ يبدو لي أن هذه الجزئية لا تستحق الإطالة، فقد وقف أبو الحسن الأشعري موقفاً مشابها عندما وقف في المسجد بعد أربعين من انتمائه للمعتزلة، ثم قال مخاطباً المصلين: «أيها الناس من كان منكم يعرفني فقد عرفني ومن لا يعرفني، فأنا أبو الحسن الأشعري وإنني قد رجعت عن الاعتزال».

الليبرالية مغرية في ملابسها الخارجية وخلاخلها، ولا شك أنها ستظل تغري كل مفكر حر قلق متسائل.
بل وكل شاب وشابة ممن يبحث عن الأجوبة بنفسه بعيداً عن قيود التقليد والتبعية.
إلا أن من عرفها كمعرفتي بها يدرك أن مظهرها الداخلي عندما تلقي ملابسها، شيء في غاية البشاعة.

هل انتقادي لليبرالية من باب نقد الذات ومحاولة إصلاح البيت من الداخل؟ جوابي هو لا.
إنما هو وداع مفارق مبغض للزيف والخديعة، فالليبرالية قد تبدت لي كمشروع يسعى بأساليب ملتوية لتدمير هذا الوطن. كيف؟
لقد بدأ تشكل الفلسفة الليبرالية في القرن السادس عشر في إنجلترا وهولندا. وكان معناها في البداية حرية التجارة بعيداً عن سلطة الملوك الذين كانوا يفرضون ضرائب جشعة على التجار.

ثم تطورت شيئاً فشيئاً لتكون ثورة على رجال الدين وسخرية منهم، كما كان يفعل الفرنسي فرانسوا فولتيير، والذي كان اتباعه يطيرون كل مطير بكتاباته التي تسخر من كل شيء، لكنها لا تقدم أي شيء.
ثم انتهت الليبرالية بتشكل النظام الرأسمالي الربوي الذي كرس طبقية شنيعة أسوأ من طبقية زمن الاقطاع.

عندنا في المملكة، دخلت الليبرالية كمنتج مستورد من الخارج ليدخل من جمارك التنوير الديني.
فالكاتب الإسلامي الذي يدعو لتطوير الفقه وإخراجه من مدرسته القديمة، يعتبر عند البعض ليبرالياً، بنسبة ما. ولذلك كثر المنتسبين إليها واستطاعت أن تخترق المشهد الثقافي بسبب هذه «الخطة الحِرباوية» وهذه الهلامية التي تجعل تسليط الضوء عليها صعباً والانخداع بها سهلاً.

ثم أصبحت الليبرالية بوابة لكل عدو كاره لمجتمعنا ساعٍ لتفتيته. فكل من يكره شخصيتنا ومذهبنا ومنهجنا وديننا، لم يكن يحتاج إلا أن يقدم نفسه على أنه «ليبرالي» لكي يأخذه الليبراليون بالأحضان ويوجهون له الدعوات ليكون واحداً منهم، واحداً من المثقفين المتحررين من التقليد، المحبين للحياة والإنسانية الخ.

لكن عندما تكشفت الأمور عند من تكشفت لهم، وأنا منهم، فإذا بكثير ممن يدعي هذا اللقب باعتزاز كبير ليس سوى عدو موالي لأعدائنا، بل واحد من اتباع مخلصين لهم. ولعل أولى تلك الصدمات في الليبراليين المزعومين هو خروجهم في 2006 يطبلون ويهللون لحزب الشيطان الذي يسمي نفسه كذباً وزوراً «حزب الله» بدعوى أن حزب نصرالله هو الحزب المسلم الذي تحدى إسرائيل وصمد في وجهها. هذا التمجيد المستمر للصفويين، وهذا القدح المستمر فيما يمثل هويتنا والمذهب السني تحديداً، مثل (صحيح البخاري – عمر بن الخطاب – السلفية – الوهابية) جعل المشهد يشبه السهم الصاعد والسهم النازل عند مرتادي المنتديات الليبرالية على الشبكة العنكبوتية. وهذا ما يجب أن ينتبه له كل غافل، أن هناك من يحاول أن يمسخ هويتك أنت، لكي تكون صيداً سهلاً له هو.

وما حل بعراق العرب منذ 2003 إلى الآن هو نموذج حي لنتائج الليبرالية التي أتحدث عنها هنا. لقد أسقط صدام حسين وحوكم وأعدم باسم الليبرالية والتحرير من الطغيان والانتصار لحقوق الإنسان. ليحل محله هؤلاء الصفويون الذين جعلوا الوضع في العراق أسوأ بكثير مما كان في زمن صدام.

من حق الباحث أن يناقش ويدرس أي ظاهرة أو أي مذهب، لكن بشرط الحياد والعلمية. والحياد والعلمية لن تراها وأنت تزور المنتديات الليبرالية على الشبكة العنكبوتية، بل سترى أنك في حصن معادٍ لكل ما تعنيه لك هويتك. أما شبابنا، فستجد أنك أمام مجموعة من حاطبي الليل، ومن المعلوم أن حاطب الليل تلتوي الأفعى في ساقه وهو لا يدري.
مشكلة الليبراليين السعوديين الحقيقية تكمن في أنهم لا يملكون القدرة على الانطلاق من الذات. لا بد أن يكون تابعاً.

كيف ينطلق من الذات وقد انفصل عن هويته؟ فلو قلت مثلاً أنك تريد أن تكون ليبرالياً لكنك تريد أن تبقى عدواً لإسرائيل وتحلم باستعادة فلسطين، فإنه سيقال لك إن هذا غير ممكن، لأن هذه أحلام إسلامية محافظة وليست ليبرالية. إذن لا بد أن تكون تابعاً بالكامل للمشروع الصهيو أمريكي وإلا فلن تكون ليبرالياً حقيقياً.





الثلاثاء، 6 مارس 2012


حرية التعـبير... هل عليها قيود في المملكة؟

معالي الشيخ : صالح بن عبدالرحمن الحصين

اطلعتُ في الشبكة العنكبوتية على صفحة ناشطين تَضَمّنت - حتى تاريخه - رسالتين عَرّفَ مُوَقِّعُوها أنفسهم بأنهم: «مجموعة من شباب هذه الأمة العربية السعودية، من الجنسين ومن مختلف التوجهات والأفكار والطوائف...».

وأفصحوا في رسالتهم الأولى عن غايتهم: «.... سنظل... مدافعين ومحاربين بشجاعة عن حرمة حقوق وحريات أمتنا العربية السعودية... لدينا هذا الحلم، وهو أكبر، حرية الرأي والتعبير والضمير والمعتقد... هو حلمنا، وهذه هي رسالتنا الأولى».

وتضمنت الرسالة الأخرى بياناً جاء فيه: «نحن بأسمائنا... نؤيد كل من يريد أن يقول ما في نفسه، وأن يُعبّر عما في روحه، ويكتب ويتحدث ويرفع صوته عالياً بما يريد هو، ليس بما نريده نحن، وليس بما يريد أولئك وهؤلاء، وبكل ما تعهدت به البشر من مواثيق عالمية معلنة في حفظ حقوق الإنسان وحرياته، وهو ما وقعت عليه الحكومة السعودية وخالفته وانحرفت عنه، وإذ نؤكد... بأن هذه الأسماء... على أتم الاستعداد لأن تدفع بحياتها ثمناً كي يقول كل مواطن رأيه ويعبر عنه... نحن نؤمن بأننا أمام اختبار وضعنا فيه الآن، إما أن نكون أو لا نكون، إما أن نكون أمام أنفسنا متسقين مع مبادئنا وقيمنا التي نؤمن بها، ونقف أمام انحراف الحكومة عما وقعت عليه من مواثيق عالمية تكفل حقوق الإنسان وحرياته، وإما لا نكون أمام أنفسنا سوى مدّعين، لا مبادئ لنا ولا قيم، نتفوه بما لا نؤمن، ولا نأمل لجيل أمتنا المقبل خيراً بعدم التصدي لهذا الانحراف الحكومي، من حرية وعدالة ومساواة».

سأناقش في هذه الورقة مضامين هذه العبارات المقتبسة، وما يرتبط بها.

بصرف النظر عن ارتياب المشككين بعدم صدقية البيان، بسبب غياب الأسماء المعروفة دائماً بحماستها لتأييد «حق» الحرية في التعبير، وأن الأسماء التي ظهر بها البيان في جملتها لم تُعْرَف من قبل بمثل هذه الحماسة، لأن المقصود، في هذا المجال، «القول» وليس القائل، و«الرأي» وليس الشخص الذي أُسْنِد إليه.

وقد يقال: هل أن كلاماً صادراً من عدد «ما» من الناس يَستحقُ أن يُحتفل به، ويُشْغِل به الإنسان فكره وقلمه؟

والجواب: أن مناقشتي لعدد من «المثقفين» السعوديين، واطلاعي على بعض ما يطرح في وسائل الإعلام، أوجد لدي انطباعاً بأن ما تضمنته العبارات المقتبسة هو رجع صدى للشيء ذاته الذي يتصوره عدد من «المثقفين» السعوديين، وهم وإن كانوا قليلي العدد، وأُتُوا من نقص في الاطلاع على المصادر المعرفية التي تتناول الموضوع، إلا أنهم مرتفعو الضوضاء، ومحظيون بالاهتمام، حتى عند بعض الخاصة.

وأهم من ذلك أني، وقد بلغت في السن من الكبر عتياً، أعرف من تجارب الحياة: أن الفكرة وإن كانت مبنية على «وهم» فإنها بشيوعها وترددها على الأسماع وعلى الألسنة تصبح كما لو كانت «حقيقة إيمانية» لا سيما وإن ارتفعت إلى مرتبة «الشعار» فإنها في هذه الحال تعتبر في قوتها الإقناعية لدى أكثر الناس بمنزلة أعلى من الحقائق الرياضية.

لهذا فقد أثار اهتمامي هذا الموضوع، ورأيت من واجبي التعليق عليه، وفي هذا التعليق سأتفادى ذكر آرائي الشخصية، إلا عند الحاجة الملحة، وهذا إذا وجد فسوف يكون في حالات قليلة، وبدلاً من ذلك سوف أكتفي بإيراد معلومات واقعية، وأترك للقارئ حرية الاستنتاج منها، وسوف استعمل اللغة والمنطق العقلي وطريقة التفكير المفروض قبولها من مثل من كتبوا البيان.

أنه من الواضح أن هذه العبارات كُتبت نتيجة تفكير جاد، وأن من كتبوها يستشعرون بأنهم مقدمون على أمر خطر، وأنهم يتوقعون أذىً كثيراً نتيجة صدورها عنهم، وأنهم مستعدون للتضحية حتى بحياتهم في سبيل مناصرة «حرية التعبير».

فما «الأمر الخطر» الذي أشار إليه كاتبو البيان، وتوقعوا الأذى الكثير بسبب انحيازهم له، واستعدوا لبذل حياتهم في سبيل الجهر به؟

الجواب: باستحضار المناسبة التي كُتِب في ظلها البيان يبدو أن القارئ لا يمكن أن يعتقد إلا أن المقصود: حرية التعبير في (الجهر بقولة الكفر)، و(الكفر بعد الإسلام)، ونفي القداسة عن المقدسات لدى المجتمع: الله، القرآن، الرسول، الإسلام، والتعامل معها بالنقد أو حتى بالذم، أو التحقير، أو السخرية أو الاستهزاء، كما لو كان شيئاً لا قداسة له ولا وقار، فإن لم يصح الافتراض بأن هذا الأمر مقصودٌ بالذات في العبارات المقتبسة، فعلى الأقل أن يُفتَرض أن هذه الأمور داخلة قصداً في عموم عبارة: «نؤيد كل من يريد أن يقول ما في نفسه، وأن يُعبّر عما في روحه، ويكتب ويتحدث ويرفع صوته عالياً بما يريد هو»، فإن لم يصح هذا الافتراض أيضاً فعلى الأقل: ألا تكون هذه الأمور منفية أو مستثناة في قصد المتكلمين عن العموم المشار إليه، وليس بعد هذا إلا اعتبار الكلام لغواً لا معنى له.

وهذا هو السبب في أن هذه العبارات أثارت اهتمامي، وسيجري التعليق عليها في وقفتين:

الوقفة الأولى

عندما نحكّم العقل والعدل، أو بعبارة أخرى، التفكير العقلاني والأساس الأخلاقي، هل القول بحرية التعبير كقيمة كونية وحق من حقوق الإنسان يعني أنها حرية «مطلقة» لا قيد عليها، كما يُفهم من عبارات البيان المقتبسة؟ هل وُجد مِن قبل في أي زمان وفي أي مكان من يعتبر حرية التعبير قيمة كونية «لا قيود» عليها؟ هل يعتبرها كذلك وينحازُ إليها حتى ولو ظهرت في صفة عدوان على الآخرين وحرياتهم وقيمهم؟ هل يعتبرها كذلك لو ظهرت في إعلان البائع عن سلعة يسوّقها إعلانه بالكذب والخداع والغش وتضليل المستهلكين؟ هل نتوقع أن تُعتبر كذلك قيمة مطلقة عندما كانت المناداة بالحرية والمساواة والإخاء في ذروتها بعد الثورة الفرنسية حتى عندما كانت مدام «رولان» تخاطب الحرية وهي في طريقها إلى المقصلة بقولها «أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك»؟ هل إنّ تقييد حرية التعبير في المملكة العربية السعودية بـ «عدم المساس بالمقدسات، أو الجهر بما يوجب الحكم بالردة في الشرع» انتهاك لحق من حقوق الإنسان؟ هل يمكن أن نجد الإجابة في ما هو واقع؟

من المعروف أن لكل دولة مرجعها الثقافي الأعلى، هذا المرجع يحكم قوانينها وإجراءاتها وتصرفاتها، ويسمى «القانون الأساسي للحكم»، أو «الدستور»، في ظل هذا الواقع هل يمكن لمواطن أي دولة أن يدعي الحق، بالاستناد إلى حرية التعبير، أو بحكم حريته الشخصية في صورها المختلفة، أن يدعي أن دستور بلاده لا ينطبق عليه، وأن في إمكانه الخروج عليه وتسفيهه والدعوة للثورة على نظام الحكم الذي يحميه هذا الدستور؟

المملكة العربية السعودية كغيرها من الدول لديها قانونها الأساسي للحكم، وهو يحكم قوانينها وإجراءاتها وتصرفاتها، ولكن في حال المملكة ليس قانونها الأساسي للحكم مرجعها الثقافي الأعلى، فنظامها الأساسي للحكم يَعترف صراحة بأن هناك مرجعاً ثقافياً «أعلى» يحكم القانون الأساسي للحكم وما يحكمه هذا القانون من قوانين وإجراءات وتصرفات في المملكة العربية السعودية (المادة السابعة من النظام الأساسي للحكم).

أليس الالتزام بهذا المرجع الثقافي الأعلى يجب ألّا يقل، عقلاً وعدلاً، عن الالتزام بالقوانين الأساسية للحكم (الدساتير)، وذلك في ما يتعلق بعلاقة حرية التعبير بحقوق الإنسان، التي غالباً ما تشتمل على مضمونها القوانين الأساسية للحكم (الدساتير)، ومن بينها النظام الأساسي للحكم في المملكة – (راجع مواده 26، 39 ومواده 8 ،18،19 ومواده من 26 حتى 28 ومواده من 36 حتى 40، والمادة 47).

قد لا يكون محلٌ للإشارة هنا إلى تجريم القانون الفرنسي، وغيرهُ من القوانين في الغرب، تجريمها التشكيك في أعداد الذين أدخلهم هتلر إلى الأفران من اليهود، وصنع من شحومهم الصابون، بأنهم بلغوا في قصة «الهولوكوست» «المقدسة!» أكثر من عدد اليهود في ذلك الوقت، أو الإشارة إلى شناعة التشكيك في «الهولوكوست» التي حملت مستشارة ألمانيا إلى التدخل في الشؤون الداخلية لدولة أجنبية، كما اعترفت بذلك، حينما وجهت اللوم للبابا على عفوه عن رجل دين (باحث في التاريخ) ارتكب!! تحت غطاء «حرية التعبير» التشكيك في بعض تفاصيل «الهولوكوست».

بصرف النظر عما ذُكر، فهل يستطيع كاتبو البيان أن يذكروا حال واحدة في أي دولة أوروبية أو أميركية قَبِلت فيها هذه الدولة بالاحتجاج بحرية التعبير تبريراً لتحقير الدستور، أو الدعوة للثورة عليه، أو على نظام الحكم الذي يحميه؟

إن كان تقييد حرية التعبير، في ما يتعلق بالدساتير ومضامينها، قولاً وعملاً هو حكم العقل والعدل (التفكير العقلاني والأساس الأخلاقي)، فبأي مبرر تستثنى المملكة من حكم العدل والعقل في تقييد حرية التعبير في ما يتعلق بمرجعها الثقافي الأعلى، لا سيما بعد معرفة أنه في حال المملكة إجماع الشعب على اختيار الإسلام، طريقة للحياة والإيمان بذلك، لا يوجد ولم يوجد له شبيه في الأنظمة البشرية، سواءً الإشتراكية أو الرأسمالية، والتي هي - في الحقيقة لا في الشكل - اختيار حزب وليس شعب، أو اختيار نخبة وليس الجمهور، فإذا جاء من ينكر على شعب المملكة هذا الاختيار فهل يكون إنكاره متفقاً مع المنطق العقلي والعدل؟

تُلحّ الجهات المواجهة للمملكة على الإنكار عليها: أن تتخذ الإسلام منهجاً للحياة، وأن تخضع لأحكامه، ويُعذَرون بأنهم يقيسون الدين الإسلامي على الأديان الأخرى التي تترك «ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، فلا تتدخل في الحياة العامة جاهلين طبيعة الإسلام، ولكن ما عُذر أبناء المسلمين الذين يعرفون طبيعة الإسلام، وأنه شيء مختلف عن مضمون كلمة دين بالمعنى المعروف لكلمة Religion.

كم مرة رأينا الوفود من السياسيين والاجتماعيين والتربويين وغيرهم يأتون للمملكة ليقنعوها بعدم العقاب على الردة بحجة «حرية الرأي والتعبير والضمير والمعتقد»، ونرى إخواننا من الخاصة وليس العامة ترتجف الأرض تحت أقدامهم، وترتعش أفئدتهم، ويتصبب العرق من جباههم، شاعرين بالحرج ألا يتمكنوا من مواجهة هذا الهجوم، لم يدرك هؤلاء الإخوة أن هجوم عدوهم لا تدعمه قوة حجة وبرهان، إذ لا يَستند إلى قاعدة قانونية معترف بها، أو إلى محاكمة منطقية سليمة أو إلى أساس خُلقي.

لو انتهى القارئ بعد قراءة ما سبق إلى الاقتناع بأنه لا يوجد في العالم من يدعي أن من حقه أن: «يقول ما في نفسه، وأن يعبر عما في روحه، ويكتب ويتحدث ويرفع صوته عالياً بما يريده» بدون قيد، أو أن هذا من حقوقه التي تضمنتها وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولو وجد من يدعي ذلك لما قَبِلَه منه أحد، وأنه لم يوجد في واقع الحياة تطبيق لمثل هذه الدعوى.

لو أُفتُرض أن القارئ وصل إلى الاقتناع بما سبق، لكان من الطبيعي أن يثور لديه سؤالان:

الأول: إلى أي مدى يمكن عقلاً وعدلاً وواقعاً تقييد حرية التعبير؟

والثاني: من له سلطة هذا التقييد؟

للإجابة عن السؤال الأول، فمن المناسب أن نلاحظ أولاً أن حرية التعبير ككل الحريات قابلة للنسبية والغموض، وقد يساعد في جلائها مفهوم الاصطلاح المقابل: «الطاعة»، فالحرية والطاعة وجهان لعملة واحدة، فحيث تحكم الطاعة لا توجد الحرية، وربما يتضح ذلك أكثر في ما بقي من كلام عن إجابة السؤال الثاني.

وفي ما يتعلق بالسؤال الثاني: من له الحق في تقييد حرية التعبير؟ بالطبع فإن الإجابة عن هذا السؤال بشمول ليست ممكنة في هذا المجال، إن كانت ممكنة في مجال آخر، ولكن لنستحضر في الذهن الأنظمة الديموقراطية، ففي هذه الأنظمة تكون الجهة التشريعية (البرلمان) لها سلطة عليا في الأمر والنهي، ومن أفراد هذه السلطة: سلطة «تقييد الحريات»، التي تنص عليها وثيقة حقوق الإنسان، بما فيها حرية التعبير، وقد تبالغ الأنظمة الديموقراطية في وصف هذه السلطة العليا كما في المثل الإنجليزي المشهور «الملك مع البرلمان يستطيعون أن يعملوا أي شيء سوى أن يحولوا الرجل إلى إمرأة أو المرأة إلى رجل».

لكن هذه السلطة في الحقيقة ليست على إطلاقها فقد يُعترض على بعض التشريعات بأنها مخالفة للدستور، وإذاً فالحكم الأخير أو السلطة الحقيقية في «التقييد» للدستور (الذي وافقت عليه الأمة بغالبيتها عند الاستفتاء العام عليه) وهي طاعة «مُطْلقة» له، ويتضح هذا المعنى أكثر عند المقارنة بالنظام الإسلامي، فالنظام الإسلامي، ككل الأنظمة، يَفرضُ في حالات معينة طاعة المخلوق للمخلوق مثل: طاعة الزوجة لزوجها، والولد لوالديه، والرعية لولي الأمر، ولكن كل هؤلاء طاعتهم «غير مطلقة» لأن الطاعة المطلقة في الإسلام من خصائص الألوهية، فدعواها لغير الله «شرك» في الطاعة، يعني أن طاعة المخلوق في الإسلام دائماً «مقيدة» وليست «مطلقة»، على عكس ما رأينا بالنسبة للدستور في مواجهة الخاضعين له في النظم الديموقراطية، ففي الإسلام طاعة المخلوق المفروضة سواءً الولد لوالديه، أو الرعية للحاكم، طاعة «مقيدة» في «المعروف»، وهذا المعيار استعمل في القرآن في 39 موضعاً، ما يعني أنه معيار «مرن» ولكنه «منضبط»، قال تعالى في مخاطبة الرسول «صلى الله عليه وسلم» في بيعة النساء: (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ)، علق المفسر المشهور ابن زيد (توفي عام 182هـ) على هذا الجزء من الآية الكريمة بقوله: محمد صلى الله عليه وسلم نبي الله وخيرته من خلقه ومع ذلك فلم يقل الله (وَلا يَعْصِينَكَ) ويترك حتى قال (فِي مَعْرُوفٍ)، فكيف لغيره «صلى الله عليه وسلم» أن يدعي أنه يطاع في غير المعروف (راجع الطبري في تفسير هذه الآية)، وفي الآية الكريمة الأخرى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ...)، فالآية الكريمة تفترض إمكان المنازعة بين ولي الأمر ومن يَحْكُمه، في شأن أمْرٍ أَمَرَ به - ويشمل ذلك التنازع في اتصاف الأمر بصفة المعروف- والمنازعة هنا - والله أعلم - إنما تكون بعد المراجعة، ما يعني قابلية كل أمْر من أوامر ولي الأمر للمراجعة (كما اختار ذلك ابن عاشور في تفسيره لهذه الآية) تحت شرط «في المعروف»، وتهدي الآية الكريمة إلى طريقة العلاج وهو تحكيم: القرآن والسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبهذه المناسبة فيمكن للقارئ إعادة التأمل، أي النظامين الثقافيين أكثر تحضراً وتقدماً وإنسانية وحماية لكرامة الإنسان وحريته، وأولى بالدعوة لتبنيه والدفاع عنه، وليتذكر القارئ أننا نتحدث عن الأنظمة ونقارن بينها، ولا نتحدث عن التطبيقات التي تحدث في ظلها، هنا أو هناك، وعندما نتحدث هنا عن الإسلام فإنما نقصد به جانبه «الدنيوي»، أي تنظيمه لطريقة الحياة، أما جوانبه الأخرى فيمنع الحديث عنها شرطي على نفسي استعمال اللغة وطريقة التفكير التي يقبلها كاتبو البيان.

الوقفة الثانية

وهي عن صلة الحكومة السعودية بوثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ودعوى إطلاقها.

تتهم العبارات المقتبسة من البيان موضوع البحث الحكومة السعودية بأنها: خالفت وانحرفت عن إعلان حقوق الإنسان «وهو ما وقعت عليه الحكومة السعودية وخالفته وانحرفت عنه».

وأن الاتساق مع المبادئ التي يؤمن بها المطالبون يعني، وبعباراتهم: أن «نقف أمام انحراف الحكومة عما وقعت عليه من مواثيق عالمية تكفل حقوق الإنسان وحرياته»، وأن: «لا نأمل لجيل أمتنا المقبل خيراً بعدم التصدي لهذا الانحراف الحكومي، من حرية وعدالة ومساواة».

بالنسبة لاتهام الحكومة السعودية بانتهاكها للحقوق التي تضمنتها وثيقة حقوق الإنسان، ففي هذا يقال: المقام ليس مقام الدفاع عن الحكومة السعودية، بل لا ننكر أن الحكومة السعودية كغيرها من الحكومات في العالم، غير معصومة عن صدور إجراءات لا تتفق مع وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولكن ماذا نسمي هذا الأمر عندما تقوم أول دولة غربية أعلنت عن حقوق الإنسان، وتصف نفسها بأنها: أغنى وأقوى دولة في التاريخ، حين تقوم باختطاف الناس وشحنهم بالطائرات إلى المواقع السوداء Black sites، أعني مراكز التعذيب في أوزبكستان، ودول أوروبا الشرقية، وبعض دول الشرق الأوسط، على سبيل المثال سورية، وسجن «باغرام» تحت سلطة الجيش الأميركي في أفغانستان، وماذا نسمي إسهام دول عدة في الدعم اللوجستي لهذا العمل «الإنساني!!!»؟ هل لها اسم غير انتهاك حقوق الإنسان ومخالفته والانحراف عن وثيقة تلك الحقوق، وإن جرى تحت سمع القانون الدولي وبصره.

ومن الملائم في هذه المناسبة القول أن يَذكُرَ شخصٌ في مثل سني، تَتَبّعَ مراحل توقيع المملكة على وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان:

أنَّ الحكومة السعودية ظلت لمدة طويلة متمنعة عن التوقيع على هذه الوثيقة، وذلك لأنها خشيت أن تُفسّر بعض بنود الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأنها تخالف الإسلام، أو لا تتفق معه، فيلزمها بالتوقيع ارتكاب ما يخالف الإسلام وأنها - على خلاف الدول الأخرى - كانت ترى أن توقيعها للعقد يعني إلتزامها به التزاماً حقيقياً، لا يتصور أن تحيد عنه، وذلك تطبيقاً لأمر الله الحاسم: (أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ)، في حين نعلم أن الحكومات الديكتاتورية وقّعت من دون تردد على وثيقة حقوق الإنسان لأنها لم تخش من تفسير الميثاق، ولا بعواقب تطبيقه، كما أن الدول الأخرى غير المملكة لا تنظر للعهود بين الدول نظرة المسلم للقوة الملزمة للعقود والمعاهدات الدولية، وإنما تعرف أنها سوف تلتزم بها فقط في الحالات التي يسمح لها مبدأ: المصلحة القومية والقوة.

وقد وقّعَت الحكومة السعودية على وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الانسان، بعد أن أدركت أنه ليس في ما تضمنته الوثيقة ما يقتضي ضرورة أن يُفسر بما يخالف الإسلام، لاسيما بعد إعمال المادة 29 من الوثيقة.

فوثيقة حقوق الإنسان، بعد إعمال القيد المشار إليه، ليس فيها ما يقتضي بالضرورة أن يُفسّر بأنه حرية لإباحة ما حرمه الإسلام مما يتعلق بالتعامل مع الثوابت، أو مع المقدسات: «الله، القرآن، الرسول، الإسلام»، ولذلك فيمكن القول بأن الحكومة السعودية، بعدم سماحها بما يخالف الإسلام، لا تُعتبر من الناحية القانونية مخالفة لحقوق الإنسان أو حرياته، بل إن نص الفقرة الثانية من المادة 29 من الوثيقة نفسها يعطي المملكة هذا الحق.

أوضحنا، في الوقفة الأولى، أن الإسلام، بالقيود التي ذُكرت في المادة عينها، يتفق مع الوثيقة في حماية حريات وحقوق الإنسان، بل أدعينا أن الإسلام في حمايته لحرية الإنسان وحقوقه هو أرقى وأكثر إنسانية وأبلغ حماية من أي نظام ثقافي آخر، ديني أو علماني. ونَدّعِي أن هذا ما يُستنتج من المعلومات الواردة في ما سبق، وإذا صح هذا فإن القضية لا تحتاج من مُوقعيّ البيان دفاعا،ً ولا حرباً، ولا استعداداً للموت، وإلا كانت حرباً دونكشوتية، تهاجم طواحين الهواء بحسبانها شياطين.

تنص الفقرة الثانية من المادة 29 من وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على الآتي:

«يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق»، ويتناغم هذا النص مع نص المادة 39 من النظام الأساسي للحكم في المملكة.

واضحٌ من النص أنه يضع قيداً شاملاً على كل الحريات والحقوق التي تتضمنها الوثيقة، ومن بينها الحرية الشخصية التي من أفرادها حرية التعبير.

وتضعُ الوثيقة «قيداً» على «حرية التعبير» بألا تكون مخالفة لما يقرره القانون لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق، ولا شك أن القانون الأعلى في المملكة العربية السعودية لا يُطلق حرية التعبير بما يخالف أحكام الإسلام، ومن بينها التعامل السلبي مع الثوابت أو المقدسات الإسلامية.

وعندما تستعيد الذاكرة أن المسلمين في المملكة يؤمنون: بأن الله وحده المستحق منهم لغاية الخضوع والاستسلام، وغاية الحب والتعلق، وأنه سبحانه وحده الذي إن ذكره المؤمن وجل قلبه وتملكه الشعور بما يجب له من توقير وإجلال، وأنهم لا يكونون مؤمنين إلا إذا كان الرسول «صلى الله عليه وسلم» أحب إلى أحدهم من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، وأنه أُرسل رحمة لنا، وكان عزيزاً عليه ما يعنتنا، حريص علينا، رؤوف رحيم بنا، وأن الذين يؤذون الله ورسوله لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، ويَعْرِفون: أن القرآن كلام الله لا ريب فيه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله، ولو أن قرآناً سيرت به الجبال، أو قطعت به الأرض، أو كلم به الموتى لكان هذا القرآن.

فالاعتراف بحقوقهم وحرياتهم تمنع التسامح مع أي تعاملٍ مع هذه الذوات المقدسة بما يخالف الأدب الواجب لها والوقار، فهم إذاً عندما لا يتسامحون مع ذلك إنما يفعلون ما يتطابق تماماً مع القيد الوارد في الفقرة الثانية من المادة 29.

ومن الطبيعي أن يشعر المسلمون في المملكة بأنهم يُؤذَون نفسياً بالعدوان في التعامل السلبي مع الثوابت والمقدسات أكثر ما يتأذون جسمانياً أو مالياً بالعدوان على الجسم والمال، ويعتقدون أن حقهم في عدم التسامح مع أي انتهاك لما ذكر، لا يقل عن حقهم في عدم التسامح مع أي انتهاك لحقوقهم أو حرياتهم الأخرى المقررة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

والحقيقة التي يغفل عنها الكثير أن الله حَظَرَ على المسلم الاستماع باختيار ورضا لمن يخوضون في آيات الله، قال تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرهِ، وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)، وقوله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ)، والمقصود بـ «الخوض في آيات الله» هنا معنى واسع يشمل: «الوقوع فى النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن وسبه والاستهزاء به»، (راجع ابن جرير عند تفسير هذه الآية).

وإذا كان المسلم، بالتعرض لهذا الوعيد والإنذار الذي ترتعد منه القلوب وتمتلئ من الخشية والفَرَق، لا يملك إلا الانصياع لحكم الله فلا يقعد من دون إنكار بقلبه ولسانه في مجلس - حقيقي أو افتراضي - يخاض فيه في آيات الله، وتقال فيه قولة الكفر، ولا يتردد بعض حاضريه من الجهر بما يُحكم عليه بالردة، أفلا يكون من باب أولى أن يحظر على المسلمين أن يتسامحوا في سلطانهم بالاستماع اختياراً إلى من يجهر بقولة الكفر، وما يوجب الردة والكفر بعد الإسلام، فهل يكون التسامح منهم موافقاً لنص الفقرة، أم مخالفاً له؟

لا أحد يقول بأن سلوك قاطع الطريق يمكن أن يبرر بأنه ممارسة للحرية الشخصية، قال تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا...) الآية، فمن أحق بهذه الصفة «محاربة الله» و«السعي للإفساد في الأرض»: قاطع الطريق، الذي ضرره على المجتمع محدود بالزمان والمكان والأشخاص المتضررين، أم من يرمي بنواتجه في بحيرة المجتمع الهادئة التي يرفرف عليها السلام، فيثير في المجتمع عوامل البغضاء والكراهية والنزاع، مثل من يحارب الله ويسعى في الأرض الفساد بالتعامل السلبي مع الثوابت والمقدسات على نحو ما وُصف. وإذا كانت وثيقة حقوق الإنسان نصت ضمناً على تقييد الحريات والحقوق التي تضمنتها بألا تخالف «النظام العام»، و«المصلحة العامة»، و«الآداب والأخلاق»، فهل يُنكر على مجتمعٍ، مثل المجتمع السعودي، أن يَفرضَ على الخاضعين لقانون البلاد ألا يخالفوا «نظامها العام»، و«مصلحتها العامة»، و«أسسها الأخلاقية».

إن من لديه إلمام بالقواعد القانونية وتطبيقاتها، وإحساسٌ سليم بمعنى العدل واستجابةٌ لدواعي المنطق لن يكون في صف مُوقعيّ البيان، - إذا كان يُعبّر حقيقة عن اعتقادهم - إلا إذا كان مكابراً متنكراً للقيم الكونية وما فطر الله عليه البشر من تصور للعدل واستجابة لمقتضيات المنطق.

الخلاصة

كل ما سبق تضمن معلومات واقعية، فالسؤال الآن موجه للقارئ:

- هل اقتنع بأنه لا يوجد في العالم من يدعي أن له الحق بممارسة حرية التعبير بصفة «مطلقة» وغير قابلة «للتقييد»، وأن هذا هو ما تضمنته وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ما يتعلق بحرية التعبير؟

- هل اقتنع بأن مثل هذا الإدعاء لا تقتضيه وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟

وبعد ذلك فإنني لا أملك أن أترك هذه الورقة من دون التأكيد على أن المسلم مُحّرَمٌ عليه بنص القرآن الصريح، الذي لا يحتمل التأويل، أن يستمع مختاراً لمن يخوض في آيات الله، أو يتعامل بغير الوقار اللائق مع الذات الإلهية، أو الرسول، وأنه إن خالف هذا الحظر مُعَرّضٌ للحكم المرعب: (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ)، وأنه بطريق القياس الأولوي مُحرّم عليه أن يستمع مختاراً لمن يخوض في آيات الله، أو يتعامل بغير الوقار اللائق مع الذات الإلهية إذا كان في مجتمع كمجتمع المملكة يَخْضَع مستوطنوه لحكم الله.

إن هذه القضية: تحريم الإسلام الاستماع اختياراً لمن يخوض في آيات الله، بالمعنى الواسع الذي أشرنا إليه، من الأهمية بحيث يعتبرها المسلم معياراً لقوة الإسلام أو ضعفه في نفس المسلم، إذ هل يتصور من مسلم يقرأ الآيات التي أوردناها ثم يخالف هذا التحريم الجازم بقلب بارد وحس متبلد أن يعتبر نفسه صحيح الإسلام؟ فضلاً عن أن يشعر بالمودة لمن يحاد الله بارتكاب مثل هذا الجرم العظيم، وقد قال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).وفي النهاية، بأي عقل أو عدل يطلب من مجتمع مسلم، كل أفراده مسلمون، بأن يتسامحوا مع طارئ من بني جلدتهم أو غيرهم - ممن حُرمَ فضيلة التواضع الفكري وخلا صدره إلا من «كِبْرٌ مَا هُو بِبَالِغِيهِ» - بإنكار حقوقهم إتكاءً على حق حرية التعبير.

هامش

لقد لفت نظري، في العبارات المقتبسة من الصفحة، موضوع الحديث، وصف الشعب السعودي بـ «الأمة العربية السعودية»!

نسمع وصف الشعب الفرنسي بالأمة الفرنسية، وبريطانيا الأمة البريطانية، وألمانيا بالأمة الألمانية، إذ تتميز كل واحدة بلغتها الخاصة وثقافتها الخاصة وتاريخها الخاص، وقد يكون عرقها الخاص، ولكن للمرة الأولى نسمع عن وصف الشعب السعودي بأنه «أمة»، يقع هذا الوصف على الأذان مثلما لو سمعنا الأمة القطرية، أو الأمة البحرينية أو الأمة العمانية، أو الأمة الأردنية.

صالح بن عبدالرحمن الحصين
الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي وعضو هيئة كبار العلماء ورئيس اللقاء الوطني للحوار الفكري.


الاثنين، 5 مارس 2012

مقترح لصد الهجمة الليبرالية


الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل


لا تخطئ عينُ المتابع للشأن السعودي الهجمةَ الليبرالية على الإسلام وحَمَلته ودُعاته ومؤسساته، مستخدمين كلَّ الطرق والوسائل الكفيلة بتحقيق أهدافهم التغريبيَّة، سواء كانت وسائلهم مشروعةً أم غير مشروعة، أخلاقيةً أم غير أخلاقية، فالافتراءُ والكذب والغش والتدليس والبهتان من الواجبات في الدِّين الليبرالي العربي - وخصوصًا السعودي - إذا كانت تحقِّق أهدافَهم، والانقلاب على المبادئ الليبرالية المعلنة من نحو: مصادرة الرأي الآخر، وتكميم الأفواه، وإقصاء الخصوم، وتحريض القوى السياسية الداخلية والخارجية على استئصالهم - يعدُّ من الفروض إذا كان يحقق المقصود.

وكلُّ هذه الأخلاق الرذيلة، والقِيَم المنحطّة التي تخلَّق بها الليبراليون السعوديون في معركتهم مع دين الإسلام وحملته ودعاته وعلمائه، تصبح من فضائل الأخلاق، ومن أوجب الواجبات على طريقة مكيافيللي ونيتشة ووليم جيمس وجون ديوي، وأمثالهم من رموز التسويغية والنفعية.

ومن المتفَق عليه عند الجميع - عدا الليبراليين وهم يكابرون - أن مجتمعنا السعوديَّ ينحاز إلى أهل العلم والدعوة، ويثق بهم، ولا يَقبَل قولَ غيرهم، حتى أرباب الشهوات ممن لا يحملون فكرًا منحرفًا تراهم يقفون مع أهل العلم والدعوة والحِسبة، ولو كانوا يضيِّقون عليهم في شهواتهم المحرَّمة.

ومن الملاحَظ أن الليبراليين ومن عاوَنَهم في إفسادهم، يراهنون على فئة الصامتين - وهي الأكثر - ويستغلُّون صمْتها في الكذب عليها، ويستخدمون سلبيتَها في تحقيق أهدافهم؛ وذلك حين يزعمون أن من يعارض مشروعاتِهم التغريبيةَ هم فئةٌ قليلة من المتشدِّدين فقط، مصوِّرين للناس وللغربيين أن المجتمع كلَّه يقف معهم، وأن إرهاب المؤسسات الدينية، وتطرُّف العلماء والدعاة والمحتسبين هو الحائل دون عَجَلةِ التحديث والتطوير على النمط الغربي المبيح للمحرَّمات، مدَّعين أنهم فئة قليلة لا تمثِّل المجتمع، ويستدلُّون على ذلك بصمتِ كثيرٍ من الناس، ووقوفِهم من معركة الليبراليين مع الإسلام موقفَ المتفرجين.

والمقترح الذي أرى أنه ناجعٌ جدًّا، ويضرب التيارَ الليبرالي في مقتل، ويؤجِّل مشروعاته التغريبية: هو إنطاقُ الفئة الصامتة من المجتمع، وتحريكها من السلبية إلى الإيجابية؛ فإن الأمر يتعلَّق بدِينهم وأخلاقهم، وبيوتهم ونسائهم، وبناتهم وأبنائهم، فكم عدد الأخيار والغيورين والمنحازين لهم من الرجال والنساء، وخصوصًا الموظفين والأكاديميين في الكليات الشرعية، وفي الكليات التجريبية، وفي التعليم العالي من طلاب الجامعات، وفي التعليم العام من المدرسين والمدرسات، وكم سيكون عدد المقالات لو كتب كلُّ واحد منهم مقالاً كلَّ أسبوع أو كل شهر يردُّ فيه العدوان عن الدين وحملته والْتزم بذلك؟! بحيث إذا نُشِر مقالٌ واحد للمفسدين من الليبراليين تُنتهَك فيه حُرمةُ الشريعة، أو يُنال من حملتها، أو أَنطقوا من يحرِّف الأحكامَ ويبدِّلها لهم، كُتبت مئات المقالات المنكِرة عليه في حمْلةٍ احتسابية تلقائية تتدفَّق عبر الإنترنت، منها ما يناقش فكرتَه عقلاً ويدحضها، ومنها ما يبيِّن حُكمَها الشرعي، ومنها الوعْظي الذي يعظ كاتبَها ويعظ من يقرؤون له، وأقلُّها من يتَّخذ موقفًا رافضًا لها, ولو أن يكون المقال في صفحة واحدة، ويذكر الكاتب اسمه الصريح وعمله أو مكان دراسته؛ لقطع الطريق على الليبراليين بادِّعاء الأسماء المجهولة؛ لأنهم تخلَّقوا بالكذب والافتراء، وكان بعضهم يكتبون بأسماء نسائية مستعارة، ويظنُّون أن الناس مثلهم فيرمونهم بدائِهم؛ ولذلك فوائدُ عدة، من أهمها:

1- براءة الذمَّة بإنكار المنكَر، والتواصي بالحق، والتعاون على البرِّ والتقوى، والتناهي عن الإثم والعدوان، وأيُّ عدوانٍ أعظم من عدوان الليبراليين على جلال الله - تعالى - وعلى شريعته الغراء، وحَمَلتها الأخيار؟!

2- إعطاء صورة حقيقية عن المجتمع السعودي، تُظهِر تديُّنَه وانحيازه للعلماء والدعاة، وتعرّي الليبراليين الذين ملؤوا الدنيا ضجيجيًا وكذبًا مدَّعين أن الناس معهم.

3- إسقاط الرموز الليبرالية، وكسْر معنوياتها؛ فإن المقالاتِ الكثيرةَ إذا تواردتْ على الكاتب الذي قال منكَرًا أرهبتْه، وجعلتْه يعيد حساباتِه في مواجهة مجتمعٍ كامل، ويكفي دليلاً على ذلك انزعاجُ الليبراليين من الإنترنت؛ لأنهم عاجزون عن السيطرة عليه، ويسمُّون من يناهضونهم فيه: خفافيش الظلام، مع محاولاتهم الدؤوب لإغلاق المواقع الكاشفة لفكْرهم، ولو أحصينا المقالات التي تنتقد الواحدَ منهم حينما يقول منكرًا، لوجدناها قليلةً لا تبلغ في بعض الأحيان عشر مقالات، ومع ذلك تؤثِّر فيهم كثيرًا، فكيف لو أُغرِقت شبكة الإنترنت بمئات المقالات - بل بالآلاف - على كل منكَر يقولونه، وبأقلام متعددة ومتجدِّدة، بأسماء صريحة؟!

4- تعطيل المشروعات التغريبية التخريبية للبلاد والعباد؛ ذلك أن التجاذب السياسي الداخلي ليس يخفَى على متابعٍ، وحجةُ التيار التغريبي أن الناس لا يمانعون من الإصلاح على الطريقة التغريبية، كما أن حجة الممانعين من التيار الآخر أن الوقت لا يناسب ذلك، أو أن بعض الخطوات التغريبية لا تناسب المجتمعَ، وإغراقُ الإنترنت بالمقالات المناهضة للتغريب، ولكتَّاب السوء في الصحافة يقوِّي تيارَ الممانعين، ويثبت نظريتهم، ويعطِّل المشروع التغريبي، أو على الأقل يؤجِّله.

5- تخفيف ضغْط القوى الخارجية، فمن المعلوم أن الليبراليين في دعوتهم للتغريب، وضغطهم على الحكومة في تمرير مشروعاتهم وتبنِّيها، ينطلقون من توجيه المؤسسات الغربية ودعمها لهم ومتابعتها لمطالبهم، والليبراليون عملاء فيها، إنْ بالأُجرة والوعود المعسولة بالتمكين لهم في البلاد، وإنْ بالتطوع لخدمة الباطل وتدمير البلاد وإفساد العباد.

وهذه المؤسسات الغربية التي تدفع عمليةَ التغريب في المملكة، تُتابع ما يجري في المجتمع السعودي من صراعٍ فكري، وتجاذب سياسي، وترسم منهجيتَها وخططها بناءً على ذلك، وإغراقُ الإنترنت بالمقالات المناهضة للمشروع التغريبي يجعل هذه المؤسساتِ تعيد حساباتِها، وتخفِّف الضغطَ، ولربما ضغطتْ بالاتجاه الآخر ضد الليبراليين؛ للمحافظة على المصالح الغربية، وخاصة الأمريكية؛ ولئلا يؤدِّي تماديهم إلى انتحار مشروعهم.

لا بد أن نعلم أن أمريكا بعد انفرادها بزعامة العالم، تتعامل مع الدول الأخرى وفق خطين متوازيين:
أولهما: تحقيق مصالحها السياسية والاقتصادية.
ثانيهما: تسويق فكرها الرأسمالي الليبرالي، ومحاولة فرضه على الجميع.

فإذا حصل تعارُضٌ بين هذين الركنين في السياسة الأمريكية، فإن تحقيق مصالحها يقدَّم على تسويق فكرها، وهو ما كانت تتعامل به أمريكا مع المملكة قبل انفرادها بزعامة العالم.

وبما أن العصابة الليبرالية في المملكة تستمدُّ قوَّتَها من المؤسسات الغربية، وبالأخص الأمريكية، فلا بد من الضغط الشعبي عبرَ الكتابة على التوجُّه التغريبي داخل المملكة؛ لتخفِّف أمريكا من ضغطها، ولتتخلَّى عن سياستها في دعم الأقلية الليبرالية المنحرفة على حساب الأكثرية، وأحسب أن إغراق الإنترنت بالمقالات المناهضة للمشروع التغريبي سيحقِّق الضغط الشعبي بشكل كبير، ويقنع الراصدَ الغربي والأمريكي بكفِّ عملائه.

لقد كانت سياسة أمريكا قبل ثلاثة عقود تتَّجه إلى المصالحة مع الحكومات التي تتعامل معها، ولا تلتفت إلى الشعوب؛ لأن تعامُلَها مع الحكومات يحقق لها مصالحَها، لكن بعد سقوط من لا يتوقع سقوطهم في ثورات شعبية عارمة - شاه إيران، وتشاوشيسكو رومانيا - راجعتْ أمريكا حساباتها تجاه الشعوب، وكانت تحرص على الاستقرار في الدول التي لها فيها مصالح، وتحاول كسْبَ شعوبها، وتسويقُ القيم الأمريكية، وضخّها لقنوات الترفيه المجانية، وإنشاء قنوات لها في المنطقة، ودعْم القنوات العربية الموالية لها - يدلُّ على هذا التوجُّه؛ بقصد صياغة العقول من جديد، وإمالتها للثقافة الأمريكية، أو على الأقل تحييدها عن معارضتها، ولا يمكن أن تغامر أمريكا بمصالحها لحساب تسويق فكرها، كما يدل على ذلك تاريخُها وسياستها.

وإذا كان ذلك كذلك، فإن مؤسسات الرصد الغربية عامة، والأمريكية خاصة، إذا رأت الغضبَ الشعبي عن طريق إغراق الإنترنت بالمقالات المناهضة للتوجُّه التغريبي في المملكة، ستقدِّم مصالحها على تسويق فكرها، وتخفف من ضغوطها التغريبية، وتتخلى عن أتباعها، أو تأمرُهم بتخفيف حملتهم على الإسلام وعلمائه ودعاته؛ فالضغطُ الشعبي عن طريق الكتابة له أثرٌ كبير في تغيير القناعات، وتعطيل المشروعات التغريبية، ودحْر من يقوم عليها من المفسدين.

والملاحظ أن العصابة الصحفية حين تتآلب على عالمٍ أو داعية، وتؤلِّب القوى السياسيةَ الداخلية والخارجية عليه في عشرات المقالات بتنسيق تام، وحملات منظَّمة تستهدف فيها شخصيات مؤثِّرة في مقاومة المد التغريبي، فإنها تُقدِّم هذا الافتراء للقوى المؤثِّرة داخليًّا وخارجيًّا على أنه مَطالبُ شعبيةٌ لتكميم أفواه المعارضين للمشروع التغريبي وإقصائهم واستئصالهم، وفي ضخ مئات المقالات المناهضة لذلك فضحٌ للصحافة، وإثبات أنها لا تمثِّل إلا نفسها؛ بدليل أن الحملة المناهضة لها أقوى بكثير مما تنشره في صحفها.

إننا - يا معشر القراء والقارئات - نعيش في مرحلةٍ مفصلية لها ما بعدها، فإما أن ينجح الليبراليون في تمرير مشروعاتهم وفرضها على الناس بالقوة، كما حاولوا في السينما والاختلاط - ولا يزالون - وإما أن يندحر مشروعُهم ويَسقط تحت الرايات الاحتسابية، التي انبرى لها عددٌ من العلماء الربانيين، والدعاة المخلصين لدينهم وأمَّتهم وبلادهم، والأخيار الذين يؤيدونهم، والليبراليون مستميتون في استغلال الأوضاع الداخلية والخارجية لتحقيق ما يريدون بأسرع وقت، والمسؤوليةُ ليست خاصةً بفئة من الناس دون أخرى؛ بل يجب على المجتمع كلِّه حماية بيضة الإسلام، والمحافظة على سمْت المجتمع ومظهره الديني.

ماذا سيقول الصامتون لله - تعالى - يوم القيامة وهم يستطيعون أن يذبُّوا عن الإسلام بأقلامهم وألسنتهم؟! وهل ينفعهم ندمُهم وأسفهم وأساهم حين تخرج بناتُهم عن طوعهم، فيُخلع حجابها، ويُغرَّب عقلها، ويُعتدى على عفافها، وهم لا يملكون حيلة تجاههن؟!

ولا يقولَنَّ أحدٌ: لن يقع ذلك؛ ففي مصر والشام ودول المغرب من المحافظة على الحجاب، ومنع الاختلاط، وصلاح المجتمع قبل مائة سنة ما يوازي مجتمعَنا الآن؛ بل ويفوقه، ثم ماذا كان حالهم حين خذل الناسُ علماءهم ودعاتهم في مقاومة المدِّ التغريبي، الذي أفسد دينَهم وبيوتهم ونساءهم، ولم يُصلِح لهم دنياهم؟! فهم في الفقر والحاجة والتخلُّف يرسفون، وما أشدَّ ضياعَ الدين والدنيا على الناس! وهو ما يسعى إليه الليبراليون.

ويمكن أن يُعزى صمت الأكثرية إلى أسباب، أهمها:

1- الخوف من الإرهاب الليبرالي الذي حوَّل الصحافة إلى محارقَ نازيةٍ لمن يقف في وجوههم، أو يناقش أفكارهم؛ فيختار كثير الناس السلامةَ على المواجهة.

2- أن من يقومون بالدفاع عن بيضة الإسلام، ويكشفون حقيقة المشروعات الليبرالية التغريبية من العلماء والدعاة والكتاب الغيورين - قد أدَّوا فرض الكفاية، ورفعوا الحرج عن البقية.

3- عدم محبة كثير من الناس للكتابة، أو ضعفهم فيها، وبعضهم يريد أن يكتب شيئًا عاليًا جدًّا أو لا يكتب أبدًا، أو الكسل عن ذلك أو التسويف.

4- دعوى بعضهم أنه لو كتب لا تنشر الصحفُ والمجلات له.

وكل هذه تعليلاتٌ عليلة، وأسباب لن ترفع الإثمَ عن أصحابها، ولن تعذرهم أمام الله - تعالى - وأمام أمَّتهم، وأمام التاريخ.

ومن أهل الإسلام فئةُ الأحلام الوردية، ودعاة التقارب مع كل أحدٍ إلا مع إخوانهم، والمحذِّرون من الاصطفاف مع أي الفريقين، وأكثر مواقفهم سلبية جدًّا، وتصبُّ في مصلحة التيار الليبرالي في الغالب، وليتهم سكتوا حين لم يحسنوا أن ينطقوا بالحق.

تفعيل الضغط الشعبي:
قد يقتنع كثيرٌ من قرَّاء هذا المقال بما فيه، ويريدون خطوات عملية في هذا السبيل، والذي أراه:

1- أن يلتزم كلُّ واحد من قرَّائه بكتابة مقالٍ كلَّ أسبوع مناهضٍ للمشروع التغريبي، سواء كان تأصيلاً أم ردًّا، أم بيانًا لخطر خطوة تغريبية، أم نصرة لعالم أو داعية ممن نالوا منه.

2- إذا جهر أحد الصحفيين بمنكرٍ من القول يتطاول فيه على الشريعة أو حملتها، فليسجل موقفًا بمقالة - ولو قصيرةً من صفحة واحدة أو أكثر - وينشرها.

3- يلتزم كل واحد باستكتاب عشرة من معارفه، سواء كانوا أكاديميين، أم موظفين، أم مدرسين، أم طلاب جامعات، رجالاً ونساء، ويفضل إن كان الموضوع المثار يخص المرأة أن يغلَّب جانب النساء في الكتابة فيه؛ لأن القضية تخصهن، وعليه أن يتابعهم في كتابة المقالات ويسعى في نشرها لهم، ويشجِّعهم بعد النشر بنقل التعليقات على مقاله وأصدائه.
ومع الوقت، ستنتقل مقاومة المد التغريبي من مرحلة الفردية إلى الجماعية، وتتحوَّل من كونها عبئًا ملقًى على عاتق قلة من العلماء والدعاة والمحتسبين، لتصبح ثقافةَ مجتمعٍ كامل.

4- تفعيل نشر المقالات في أكثر المنتديات الإسلامية والمنتديات العامة؛ كالمنتديات الثقافية، والنسائية، والمجلات الإلكترونية؛ بل حتى منتديات الجامعات والمدارس والمدن والقبائل وغيرها، ولا سيما أن أكثر المنتديات لا يتطلَّب تنزيلُ الموضوع فيها سوى التسجيل المجاني، وبإمكان الواحد أن يسجل في مائة منتدى، وينزل مقالاته فيها، وحبذا لو ينبري لذلك طائفةٌ ممن يتقنون التعامل مع الإنترنت، ومن فوائد ذلك:

أ- إطلاع أكبر عددٍ ممكن من القراء عليه، وحشدهم ضد التغريب والتخريب في بلادنا.

ب- قطع الطريق على سياسة حجب المواقع التي تنشر المقالاتِ المناهضةَ للمشروع التغريبي، أو اختراقها وتدميرها؛ لأن مواقع النشر إن كانت محدودة أمكن للمفسدين السيطرة عليها، وأما إن كانت كثيرة جدًّا، فلا يمكن السيطرة عليها.

ج- تعويد الناس على ثقافة الاحتساب؛ لأن المقالات المحتسبة على المفسدين إذا غزتْ كلَّ المنتديات جرَّأت الخائفين، ونشَّطت المتثاقلين، وقوَّتْ عزمَ الخائرين على المشاركة والاحتساب.

5- عمل دعايات للمقالات المميزة والقوية، وذلك بنشر روابطها في المواقع التي لم تنشر فيها، وتوزيعها عن طريق القوائم البريدية على أوسع نطاق.


وليصطف أهلُّ الحق ضد أهل الباطل، وليعلنوا البراءة من مشروعاتهم التخريبية التي تُسرَّب للمجتمع باسم الإصلاح، ولنحذر من أن نكون غثاء كغثاء السيل، والله الموفق.